التعاون السياسي والاقتصادي بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية
ترجع مبادرة التقارب بين دول أمريكا الجنوبية والعالم العربي إلى سنة 2004 عندما انطلقت المشاورات بقيادة البرازيل بهدف تعزيز التعاون المشترك واستغلال الإمكانات الكبيرة التي يتوفر عليها كلا الطرفان لتسهيل حركة التبادل التجاري ودعم التنسيق السياسي والحوار الثقافي في إطار التعاون جنوب – جنوب، وقد عقدت القمة الأولى لرؤساء كلا الجانين في البرازيل سنة 2005 وعقدت القمة الثانية في قطر سنة 2009.
ويعتبر التنسيق السياسي بين دول العالم العربي وأمريكا الجنوبية أحد أبرز محاور التعاون المشترك، فبحكم انتمائهما إلى دول الجنوب يحتاج كل من التجمعين إلى تنسيق المواقف داخل المحافل الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة والتنظيمات الاقتصادية والتجارية الدولية، وخاصة بالنسبة للبرازيل، أقوى طرف بين المجموعتين، فلا يخفى على المتتبعين أن تقارب البرازيل من دول العالم العربي، كما هو الشأن بالنسبة لتقاربها مع دول القارة الإفريقية، سيمكنها من الحصول على مزيد من الدعم الدولي لتحقيق حلمها في الحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن الدولي. كما أن الأرجنتين تحتاج إلى دعم إضافي لتفهم مطالبها حول السيادة على جزر الفالكلاند أو المالوين في خلافها مع بريطانيا.
ومن جانبنا في العالم العربي تشكل القضية الفلسطينية أبرز محاور التعاون السياسي، وقد أكد الرئيس محمود عباس مشاركته الشخصية في القمة الثالثة المرتقبة بليما، خاصة بعد تطور الدعم الذي لقيه بفضل التقارب مع دول أمريكا الجنوبية، حيث اعترفت أغلب جمهوريات المنطقة بدولة فلسطين المستقلة، ودعمت بشكل قوي طلب انضمامها لهيئة الأمم المتحدة أمام الجمعية العامة. وقد كان للبرازيل دور مهم في هذا الإطار، وسبق للرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا أن اقترح خلال القمة الثانية بالدوحة إدماج بلاده في المجموعة الرباعية للسلام، كما دعا كذلك إلى تنظيم مؤتمر للسلام حول القضية الفلسطينية.
وعلى مستوى التعاون الاقتصادي، يظهر أن المبادلات التجارية بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية تسير في اتجاه تصاعدي واعد، فحسب إحصائيات غرفة التجارة البرازيلية العربية فإن حجم المبادلات التجارية مع البرازيل التي تعتبر أكبر شريك للدول العربية في أمريكا الجنوبية بلغ 11 مليار دولار خلال التسع أشهر الأولى من سنة 2011، بينما كانت تسجل 8,2 مليار دولار سنة 2004. كما أن صادرات الأرجنتين نحو الدول العربية تجاوزت 3.2 مليار دولار سنة 2011 طبقا لمؤشرات غرفة التجارة الأرجنتينية العربية بعدما كانت تبلغ 1,3 مليار سنة 2004.
ورغم أن تداعيات الأزمة المالية العالمية قد انعكست نسبيا على مستوى العلاقات التجارية البينية إلا أن كلا الجانبان عازمان على استغلال مختلف فرص التعاون المشتركة، من خلال إبرام اتفاقيات لتشجيع وحماية الاستثمارات وتحرير التجارة، لاسيما في ظل الظرفية الاقتصادية الراهنة المتميزة بتدهور اقتصاديات بعض الشركاء في الاتحاد الأوربي.
وفي نفس السياق، تمكنت عدة دول عربية من تطوير الإطار القانوني لفتح آفاق التجارة الحرة مع تجمع المركوسور وهو أبرز اندماج اقتصادي في أمريكا الجنوبية يضم كلا من البرازيل والأرجنتين والأوروغواي ومؤخرا فنزويلا بعد تعليق عضوية الباراغواي، بحيث استطاعت مصر التوقيع على اتفاقية للتبادل الحر مع المركوسور سنة 2010، ويسير كل من المغرب والأردن في نفس الاتجاه، كما أن اندماج دول مجلس التعاون الخليجي وقع سنة 2005 على اتفاق للتعاون مع المركوسور يضمن لهذا الأخير تسهيلات مباشرة لدخول سوق دول المجلس مقابل تسهيل دخول الاستثمارات الخليجية إلى المركوسور.
وبهدف تشجيع استثمارات القطاع الخاص على الانخراط في دينامية التعاون الاقتصادي بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية أحدث على هامش قمة الرؤساء منتدى للشركات يضم أكثر من 200 شركة من كلا الجهتين، يتميز بتبادل وجهات النظر حول مجالات الاستثمارات وفرص التعاون الممكنة، ومن المنتظر أن يشارك 400 رجل أعمال في القمة الثالثة حسب ما أعلنت عنه وزارة الخارجية البيروفية.
وتطمح البيرو من خلال هذه القمة جلب انتباه المستثمرين للتعرف على الإمكانات المتاحة للاستثمار في مجال الزراعة والصناعات الغذائية في البيرو، كما تسعى كذلك إلى الرفع من مستوى معاملاتها التجارية مع الدول العربية والتي بلغت 250 مليون دولار سنة 2011.
ويحضى للتعاون في المجال الثقافي باهتمام متزايد بين المجموعتين العربية والجنوب أمريكية، فقد تمت الإشارة خلال قمة الدوحة إلى مجموعة من المبادرات المشجعة في هذا الاتجاه، كتشييد المكتبة العربية الأمريكية الجنوبية بالجزائر العاصمة، ومعهد الدراسات والبحوث حول أمريكا الجنوبية بمدينة طنجة المغربية، كما عبرت البرازيل من جهة أخرى عن رغبتها في إنشاء مركز للثقافة العربية بالبرازيل شبيه بالمركز العربي الموجود في باريس. كما أن التواجد العربي المهم في أمريكا الجنوبية يستأثر باهتمام مشترك لتقوية التعاون الاجتماعي.
المغرب والتقارب مع دول أمريكا الجنوبية
لقد دعمت المملكة المغربية بشكل قوى مبادرة التقارب بين المجموعتين العربية والجنوب أمريكية منذ إطلاقها، كما احتضنت بلادنا الاجتماع التحضيري الأول لوزراء خارجية الجانبين الذي عقد في مارس 2005 بمدينة مراكش. كما عمل المغرب خلال السنوات الأخيرة على توسيع مجالات التعاون وتنويعها مع أهم دول المنطقة، خاصة بعد الزيارة التي قام بها العاهل المغربي سنة 2004 لكل من البرازيل والأرجنتين والبيرو والشيلي والتي كانت بمثابة أول جولة لزعيم عربي لأمريكا الجنوبية ساهمت في دعم الموقع المتميز لبلادنا بين الجهتين.
وتعرف وثيرة التعاون الاقتصادي تطورا مهما مع عدة دول في المنطقة، وخصوصا مع البرازيل التي تعد أول شريك للمغرب في أمريكا الجنوبية والتاسع عالميا حسب إحصائيات مكتب الصرف التي تشير إلى أن حجم المبادلات التجارية مع البرازيل قد بلغ حوالي 17.5 مليون درهم سنة 2011، مقابل 6.2 مليون درهم سنة 2004، متبوعة بالأرجنتين التي تتموقع دون منازع في المركز الثاني كشريك للمغرب في المنطقة.
وتتواصل الجهود للرفع من الصادرات المغربية نحو دول أمريكا الجنوبية خاصة على مستوى الفوسفاط ومشتقاته، الذي يمثل أكثر من 80 في المائة من مجموع صادرات بلادنا. فقد تمكن المجمع الشريف للفوسفاط من التقرب من زبنائه في المنطقة من خلال إنشاء شركتين في كل من الأرجنتين والبرازيل سميت الأولى بـ « OCP de Argentina » والثانية «OCP do Brasil» وبلغت قيمتهما معا حوالي 4 ملايين درهم، كما يطمح المغرب كذلك إلى إنشاء أكبر مجمع صناعي في أمريكا الجنوبية لإنتاج السماد الكيماوي يكون مقره بالبرازيل.
ومن جهة أخرى يظهر أن المغرب مستعد، إذا تطورت العلاقات السياسية مع بعض دول التجمع الاقتصادي للمركوسور، للتفاوض حول إبرام اتفاقية للتبادل الحر مع هذا التجمع، بعد أن دخل حيز التنفيذ خلال السنة الجارية اتفاق التعاون الاقتصادي الذي وقع بين كلا الجانبين سنة 2004.
وغم أن القمة الثالثة بليما لن تعرف مشاركة سوريا والباراغواي بسبب تعليق عضويتهما داخل الجامعة العربية بالنسبة للأولى وفي اتحاد دول أمريكا الجنوبية بالنسبة للثانية، إلا أن ذلك لن يمنع زعماء الدول المشاركين من تقوية التواصل وتطوير أشكال التعاون بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية.
يبقى أن نشير إلى أن تبادل الزيارات على مستوى القادة لم يعرف نشاطا يوازي النشاط التجاري المتبادل المسجل خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يدفع إلى دعوة رؤساء الدول إلى المبادرة في هذا الاتجاه وإلى استغلال إمكانيات التعاون جنوب- جنوب لرفع التحديات التنموية للشعوب ومناقشة تطلعاتها المستقبلية على أرض البيرو حيث ستلتقي نسمات الربيع العربي بأشعة شمس أمريكا الجنوبية الساطعة.