ما أتى باليسار إلى الحكم في هذا الجانب من العالم ينبغي رؤيته كجزء من عملية إقصاء الطبقات الفقيرة بالمجتمع من المجال الاجتماعي السياسي.
كيف نعرّف آخر عقد ونصف من سياسات أمريكا الجنوبية؟ هنا كاختيارات عدة مختلفة. من أكثر التعريفات المستخدمة، القول إن ما يوحد حكومات الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي والإكوادور وأوروجواي وفنزويلا، وجود زعماء من يسار الوسط في سدة حكم تلك البلاد. يأتي هؤلاء الزعماء من أحزاب يسارية تقليدية، مثل: حزب الجبهة العريضة في أوروجواي أو الحزب الاشتراكي في تشيلي، ومن أحزاب شعبية مثل: الحزب البيروني في الأرجنتين، أو من أحزاب أجدد مثل: حزب العمال في البرازيل. ومع أن هذه طريقة صحيحة لتوضيح العلاقة بين تلك الحكومات شديدة الاختلاف، إلا أن ذلك التعريف لا يوضح بالقدر الكافي ما يفعلونه في واقع الأمر.
نحتاج إلى الرجوع إلى التاريخ الأقدم لفهم ما تمر به أمريكا الجنوبية المعاصرة. أيما كان الذي نراه الآن فهو حتمًا مرتبط بالماضي. لا يعني ذلك أننا دمى تحركها أقدارنا، بل يعني أن ما يبدو لنا جديدًا هو دائمًا نتيجة تراكم تغيرات سابقة.
ما الذي أتى باليسار إلى السلطة؟
ينبغي فهم العملية التي أتت باليسار إلى الحكم كجزء من ما أطلق عليه اسم "عملية عدم إشراك أو إقصاء الطبقات الفقيرة بالمجتمع من المجال الاجتماعي السياسي". كانت هذه عملية طويلة المدى بدأت في السبعينيات واستمرت حتى أواخر التسعينيات. ارتبطت تلك الفترة بإصلاحات الدولة الليبرالية الجديدة والأنظمة العسكرية السلطوية. ففي الوقت الذي أسهمت فيه السياسات الليبرالية الجديدة في زيادة عدم استقرار ظروف المعيشة وعدم المساواة الاجتماعية الاقتصادية والتهميش، أدت السياسات السلطوية إلى إلغاء الحريات المدنية والسياسية أو إضعافها بشكل كبير.
واجهت أمريكا اللاتينية دورات هائلة من الحراك ضد الليبرالية الجديدة، أدت في العديد من الحالات إلى انهيار الحكومات. في الفترة من 2001 حتى 2002 شهدت الأرجنتين أربعة رؤساء في غضون أسبوعين تقريبًا. ومرت بوليفيا بأربعة انهيارات رئاسية في الفترة من 2002 حتى 2005. كما حدث انهيار في منظومات الأحزاب والأنظمة السياسية في الإكوادور وفنزويلا، لكن ذلك لم يحدث في أوروجواي والبرازيل. كل بلد حالة شديدة الاختلاف، ولذا ينبغي لنا ألا نتجاهل تلك الاختلافات عندما نتحدث عن عملية ضخمة كهذه. لكن الأمر المشترك بين كل هذه البلاد هو العواقب الإقصائية التي ترتبت على الإصلاحات الليبرالية الجديدة وأدت إلى عدم إشراك الجماهير الفقيرة والطبقات الوسطى في المجال الاجتماعي السياسي. باختصار، ما أتى باليسار إلى الحكم في تلك البلاد كان فشل الليبرالية الجديدة كمسار للتنمية المستدامة.
كيف تشبه الحكومات الحالية حكومات فترة الثلاثينيات وحتى الخمسينيات؟
التشابه بين الحكومات الحالية في أمريكا الجنوبية لا يقوم بالأساس على كونها كلها قد أتت من خلفية يسارية، ولكن على كونها مرتبطة بدورة التحولات التي عاودت إشراك تلك القطاعات من المجتمع تدريجيًا بعد حرمانها من المشاركة على يد الإصلاحات الليبرالية الجديدة والنظم العسكرية. يعني ذلك أن ما يميز تلك الحكومات شديدة التباين ويوحدها هو طرحها سلسلة من السياسات لتوسيع المجال الاجتماعي السياسي من خلال إشراك من تم إقصاؤهم اجتماعيًا واقتصاديًا وأحيانًا سياسيًا.
يشي ذلك بصراع في إعادة التوزيع، فمن أجل إعادة إشراك القطاعات المستبعدة يجب إعادة توزيع الموارد من القطاعات الأغنى إلى القطاعات الأفقر بالمجتمع، عن طريق الضرائب والدعم والسياسات الاجتماعية وآليات حكومية أخرى. يعد ذلك بشكل عام برنامجًا يساريًا، لكن في هذه الحالة كانت له دلالة أشمل. ما حدث من إعادة إشراك للفئات المستبعدة والفقيرة منذ عام 1998، هو الموجة الثانية من نوعها في تاريخ أمريكا اللاتينية. سابقة الإشراك الأولى حدثت في الفترة من الثلاثينيات وحتى الأربعينيات بعد انهيار التحرر الاقتصادي (والسياسي في بعض الأحيان) بسبب انهيار سوق الأسهم في نيويورك عام 1929، وإفلاس معظم اقتصادات غرب أوروبا، وعقود من الاحتجاجات المتراكمة لإشراك الفلاحين والسكان الأصليين والحركات العمالية في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية. أدى ذلك إلى ظهور زعماء مثل: لازارو كارديناس في المكسيك، وجيتوليو فارجاس في البرازيل، وخوان دومينجو بيرون في الأرجنتين.. وقد عملوا جاهدين على صنع سياسات اجتماعية تشرك الفقراء والمهمشين، الذين انضموا إلى النقابات بأعداد متزايدة وكانوا يصرخون طلبًا لحقوقهم، كأفرد يتمتعون بكامل حقوقهم في المجتمع.
نجد في العقد الأخير زعماء مثل: نستور كيرشنر في الأرجنتين، ولولا دي سيلفا في البرازيل، وهوجو شافيز في فنزويلا، وإيفو مورالس في بوليفيا، ورافايل كوريا في الإكوادور.. مرتبطين (أو كانوا كذلك) بعملية مشابهة لإعادة تشكيل السياسات الاجتماعية بعد انهيار السياسات الليبرالية الجديدة. وتعد الحكومات اليسارية الحالية في المنطقة جزءًا من مسار تاريخي طويل لصراع المجموعات الاجتماعية الاقتصادية والمجموعات السياسية على توسيع أو تقليص المجال الاجتماعي السياسي. كانت الدورة التاريخية من السبعينيات حتى التسعينيات فترة تقليص المجال الاجتماعي السياسي، زادت فيها سلطة أغنى أفراد المجتمع وثرواتهم، وهُمشت فيها الطبقات الأضعف بشكل هائل. وكما حدث من قبل في الفترة من العشرينيات وحتى الأربعينيات، انهار مسار التنمية ذلك وظهرت بالتالي موجة جديدة لإشراك الفئات المهمشة. تعامل كل من بيرون وفارجاس مع سياسات الإشراك بطرق شديدة الاختلاف، إلا أن شافيز وكيرشنر اتبعا الأسلوب ذاته في إعادة الإشراك.
يمر بعض هذه الحكومات حاليًا بما قد يكون نهاية هذه الدورة من إعادة إشراك فئات كبيرة من الفقراء. من الصعب التنبؤ بما سوف يحدث بعد ذلك، فمسارات التنمية تتأثر بالدورات الاقتصادية بقدر تأثرها نفسه بشكل مقصود وغير مقصود بالصراعات السياسية بين المجموعات المتنافسة بالمجتمع. الأمر الأكيد هو أن المنظور التاريخي بعيد المدى قد يساعدنا على فهم التحديات الراهنة التي تواجه أمريكا الجنوبية.
فيديركو م. روسي
http://www.madamasr.com/ar/opinion/politics/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%89-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9