طباعة هذه الصفحة

البرازيل: عن قدرة الديموقراطية في مواجهة اليمين المتطرف

الإثنين, 05 تشرين2/نوفمبر 2018 10:59


كرم سعيد*
تتعدد التحليلات والمتابعات والأحاديث داخل البرازيل وخارجها، عن مستقبل الديموقراطية التي ترسخت في البلاد على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، مع وصول اليميني المتطرف بولسونارو إلى سدة السلطة بعد حصوله على نحو 57 في المئة في الاستحقاق الرئاسي.

 


وبرغم تصريحات «معتدلة» أطلقها بولسوناورو عشية إعلان فوزه عندما قال: «المعارضة ضرورية في النظام الديموقراطي، وحرية التعبير مقدسة... البلد غارق في أزمة عميقة وليس بوسع فرد أو حزب واحد أن ينهضه من أزمته... البرازيل في حاجة إلى مساعدة الجميع»، غير أن هذا ليس مؤشراً على أن البرازيل ليست في طريقها إلى تحولات خطيرة قد تكون لها تداعيات واسعة على تجربتها الديموقراطية، وعلى الصعيدين الإقليمي والعالمي. وتكمن أهمية «تجربة البرازيل»، في أنها الاقتصاد الأكبر في أميركا اللاتينية، وثامن الاقتصادات العالمية، بالإضافة إلى كونها دولة كبيرة ومؤثرة داخل أميركا اللاتينية، ولاعباً سياسياً وازناً على الساحة الدولية في أصعب المراحل التي يمر بها النظام متعدد الأطراف.

وجاءت تصريحات عدد معتبر من المنظمات الدولية الحقوقية، كاشفة عمق المخاوف على مستقبل البرازيل، فعلى سبيل المثال حذّرت منظمة العفو الدولية من أن انتصار بولسونارو قد يضعف حقوق الإنسان في البرازيل. من جهة أخرى، قالت منظمة «هيومان رايتس وتش» إن عشرات الصحافيين في البرازيل يتعرضون للتهديد أو الاعتداء، وأن بعضهم تعرض لاعتداء بدني وقت العملية الانتخابية، من أنصار الرئيس المنتخب. والأرجح أن ثمة العديد من الأسباب التي تكرس المخاوف على التجربة الديموقراطية في البرازيل، واتجاه البلاد نحو صياغة علاقاتها الخارجية بطريقة مختلفة، أولها تصريحات بولسونارو المتطرفة التي أطلقها خلال الحملة الانتخابية تجاه السود والأقليات والمرأة، إضافة إلى حطه من قدر خصومه السياسيين، وتوعده بمعاقبتهم. والأهم هو دفاع بولسونارو عن الحقبة العسكرية التي أمسكت بمفاصل الدولة في الفترة من 1964 إلى 1985، ويعتبر الرئيس المنتخب أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الحكم العسكري كان أنه «عذب معارضيه ولكنه لم يقتل».

وإذا كان الخطاب السياسي لبولسونارو حافلاً بالعبارات والتصريحات العدائية تجاه قطاعات واسعة في الداخل البرازيلي، خصوصاً في مهاجمته حزب العمال اليساري ومواقفه من القضايا الاجتماعية والثقافية.

غير أن أخطر ما قدمه بولسونارو خلال الحملة الانتخابية هو تصريحاته بخصوص الديموقراطية البرازيلية، حيث قال إنه على استعداد لأن يتحرك «وحده» لحل مشكلات البلاد «التي لا يمكن حلها عبر الحوار الديموقراطي». ولعل هذا هو التوجه الأكثر خطورة من بين تداعيات فوز «ترامب البرازيل».

وثانيهما توجهه نحو تشكيل حكومة تضم عدداً من الجنرالات العسكريين ناهيك عن تمتع نائبه الجنرال المتقاعد هاملتون موراو بصلاحيات واسعة في كل ما يتصل بالشؤون الأمنية. ويحمل هاملتون توجهات معادية كرئيسه للديموقراطية، وكان بارزاً هنا تأكيده أن «البرازيل في حاجة إلى دستور جديد ليس من الضروري أن يضعه ممثلو الشعب في البرلمان»، وهو ما يدفع إلى التشاؤم، ويثير مخاوف جدية على مستقبل التجربة الديموقراطية في البرازيل.

ويرتبط المؤشر الثالث بتوجه بولسانورو نحو تفعيل آليات توجهات السوق المتوحشة، والتحايل على المعونات التي طالما قدمتها الحكومة للشرائح الفقيرة والمهشمة في مجال الرعاية الصحية والتعليم، وبدا ذلك في تأكيد «باولو غيديس» المستشار الاقتصادي للرئيس المنتخب، والمنتظر توليه حقيبة المالية، أن «إعادة هيكلة صناديق المعاشات التقاعدية وخصخصة المؤسسات العامة ستكون في طليعة أولويات العهد الجديد». خلف ما سبق، تعاني البرازيل أزمة اقتصادية لا تخطئها عين، وتجلى ذلك في انكماش الاقتصاد البرازيلي بنسبة 7 في المئة وصعود معدل البطالة إلى نحو 12 في المئة بجوار تشويه الصورة الذهنية لقيادات حزب العمال اليسار، بعد إقالة ديلما روسيف في العام 2016 من المنصب الرئاسي، وسجن الرئيس السابق دا سيلفا على خلفية التورط في قضايا فساد. واستفاد بولسونارو من ارتدادات الأزمة الاقتصادية في البرازيل، وتراجع شعبية الآباء المؤسسين لليسار البرازيلي في تصدير خطاب الكراهية وعدم التسامح، فوعد بمنح الشرطة صلاحيات واسعة في مطاردة المجرمين، وتحرير قيود حيازة السلاح للمواطنين، والقيام بعملية تطهير واسعة للبرازيل من الحمر، وبسجن أو نفي معارضيه، وتمنى لمنافسه العمالي «فرناندو حداد» أن يتعفن في السجن مثل دا سيلفا.

أما المؤشر الخامس، فيرتبط بصعود جماعات الضغط والمصالح الاقتصادية إلى صدارة المشهد، تلك الجماعات التي لا تبالي بالمسألة الديموقراطية، ولا تسعى فقط سوى لتأمين مصالحها، ويكشف عن ذلك وقوف عدد واسع من الشركات الخاصة وأصحاب المصالح المالية بجوار دعم بولسونارو، حيث موَّلت إرسال ملايين رسائل «واتس آب» لصالح المرشح اليميني المتطرف، ومعروف أن البرازيل هي ثاني أعلى دولة في العالم في استخدام تطبيق WhatsApp، وأن خيارات الناخب البرازيلي تلعب الوسائط الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي دوراً معتبراً في تشكيلها.

والواقع أن التجربة الديموقراطية في البرازيل تبدو قوية، بالنظر إلى استقلالية السلطة القضائية التي لم تتردد في تطبيق عقوبات بالسجن على عدد واسع من القادة السياسيين المتورطين في قضايا فساد، والدور المعتبر للصحافة ناهيك عن القوة السياسية للبرلمان الذي أقال ديلما روسيف خليفة دا سيلفا.

لكن برغم ما سبق، فإن هذه المؤسسات التي تشكل العمود الفقري للديموقراطية في البرازيل عمرها حوالى ثلاثة عقود فقط، من غير المرجح أن تملك القدرة على مواجهة التوجهات المتوحشة لبولسونارو الذي يبدو أنه مقْدِم على منح دور سياسي أكبر للمؤسسة العسكرية، وهو ما قد يشكل تهديداً خطيراً للمؤسسات الديموقراطية في البلاد، وتحدياً للبلاد ومستقبلها. وهذا السيناريو يبدو مرجحاً مع رئيس يعمل من اليوم الأول على تقويض الثقافة الديموقراطية، ليس من طريق مدح المستبدين وتشويه الخصوم وإنما عبر الحط من بنية المجتمع ومؤسساته.

القصد أن الديموقراطية في البرازيل دخلت صراعاً ستكون فيه على المحك، إما الانتصار للقيم والمبادئ التي رسختها البرازيل على مدار العقود التي خلت وتقليص فاتورة وصول اليمين المتطرف، أو دخول هذه التجربة في أزمة ربما يكون التعافي منها مستقبلاً صعباً.

* كاتب مصري.
http://www.alhayat.com

قراءة 703 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)