سعي أميركي للهيمنة على الأرجنتين وأميركا اللاتينية

الجمعة, 25 حزيران/يونيو 2021 14:55

سعي أميركي للهيمنة على الأرجنتين وأميركا اللاتينية | محمد الحمامصي | MEO

انطلاقا من إن فهم التاريخ السياسي لأي مجتمع من المجتمعات يعد من الأمور المهمة والحيوية، يأتي هذا الكتاب"الأرجنتين.. التدخلات الأميركية في شئون أميركا اللاتينية" للباحثة د.مروة عيسى، الذي يعد عرضًا تحليليًا لـ"السياسة الأميركية تجاه الأرجنتين" في الفترة الممتدة بين عامي (1943 - 1955)، لتوضيح مدى هيمنة الولايات المتحدة الأميركية وسيطرتها على دول أميركا اللاتينية، واستغلال ثرواتها واستنزافها بشكل عام، ونتيجة لذلك بدأت بعض دول أميركا اللاتينية بالاستياء من سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاهها، وحينئذ برزت الأرجنتين وعملت على مناوأة سياسة الولايات المتحدة الأميركية، وقد نجحت في البداية بعض الشيء، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية أبت أن تترك تلك الدولة الناشئة تزدهر وتستقل سياسيًا واقتصاديًا عنها، وعملت بشتى الطرق على إيقاعها، والإطاحة بزعيمها بيرون ومن ثم الانقضاض عليها. 


قالت عيسى عن أسباب اختيار تلك الفترة التاريخية "يرجع ذلك إلى أن عام 1943، شهد انقلابًا على رئيس الأرجنتين المدني د.كاستيلو، وخلال الفترة التي حكم فيها، والممتدة بين عامي (1942 - 1943)، ازدادت التوترات مع الولايات المتحدة الأميركية؛ فعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية رفضت حكومة "كاستيلو" الانضمام إلى اتحاد الدول الأميركية لإعلان الحرب، وقطع علاقاتها مع المحور، وعندئذ تصاعدت المخاوف من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وحرمت الأرجنتين من برامج التسليح، ومن ثم كان لزامًا على "كاستيلو" الاهتمام بالتطوير الصناعي من أجل إمداد الجيش وتسليحه، لكن لم يتحقق هذا بالشكل المرجو نتيجة الصراعات الاجتماعية بين الراديكاليين والقوميين خلال تلك الفترة، ونتيجة لذلك انتشرت حالة التآمر داخل الجيش، وبدأ في التخطيط من أجل الانقلاب على هذا الرئيس، وبالفعل تم ذلك يوم 4 يونيو/حزيران 1943. وتابعت أما عام 1955، فقد شهد انقلابًا ثانيًا، ولكن على رئيس عسكري وهو الجنرال "بيرون"، وقد كان بيرون زعيمًا قوميًا، عمل على الاستقلال السياسي والاقتصادي لبلاده، واهتم بالعمالة الصناعية، وضاعف أجورهم؛ ونظر إليهم على أنهم الدعامة الأساسية لنظامه، ومن ناحية أخرى اهتم بالجيش، وعمل على تسليحه، وتلبية احتياجاته، وزاد من عدد ضباطه وجنوده؛ ليضمن ولاءهم له، وعلاوة على ذلك لم يغفل بيرون دور الكنيسة، وعمل على التقرب منها خلال فترة رئاسته الأولى (1946 - 1952)،

إلا أنه خلال فترة حكمه الثانية التي بدأت بعام 1952، بدأت الأرجنتين تعاني من تدهورٍ اقتصادي نتيجة لعدة عوامل مجتمعة كان من أهمها فرض الولايات المتحدة الأميركية على دول أوروبا عدم التعامل مع الأرجنتين، وبالتالي انخفض الطلب الأوروبي على المحصولات الزراعية الأرجنتينية؛ مما تسبب في تدهور الاقتصاد الأرجنتيني، إضافة إلى التمرد العسكري تجاه بيرون عام 1951، نتيجة محاولة بيرون تقويض الجيش، وتغيير الحكومة تدريجيًا وتحويلها إلى هيئة مدنية، ووصل عدم الارتياح إلى أوجه في أغسطس 1951، عندما قام العمال بتنظيم مسيرات حاشدة من أجل دعم "إيفا بيرون" للترشح لمنصب نائب الرئيس، وأخيرًا توتر علاقة بيرون بالكنيسة، وقد وصل هذا التوتر إلى ذروته إلغاء قانون التعليم الديني الإلزامي في عام 1954، كل هذه العوامل مجتمعة ساعدت على الإطاحة بهذا الزعيم الإصلاحي عام 1955. 


وأتت أهمية كتاب عيسى الصادر عن دار العربي للنشر انطلاقا من الرغبة في البحث والدراسة في تاريخ دول أميركا اللاتينية بشكل عام، وسياسة أميركا تجاهها بشكل خاص، نظرًا لأهمية هذه المنطقة بالنسبة لها، إضافة إلى دراسة التجربة البيرونية وفهم أبعادها المختلفة، لما أحدثته من إصلاحات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، أثرت على هيمنة الولايات المتحدة الأميركية داخل القارة اللاتينية، لذا أبت أميركا أن يقدر لتلك الدولة النجاح، وتحينت الفرصة، بل والوقت المناسب لإحداث أزمة اقتصادية حقيقية بالأرجنتين، وأخيرًا، المشاركة في إثراء المكتبة العربية - ولو بقدر بسيط - بدراسة تاريخية عن هذا المجال البحثي البِكْر، والخصب في الوقت نفسه، نظرًا لافتقارها إلى الدراسات التي تتناول تاريخ دول أميركا اللاتينية بشكل عام، والأرجنتين بشكل خاص. وبناء على ذلك، يهدف هذا الكتاب إلى دراسة السياسة الأميركية تجاه الأرجنتين في الفترة الممتدة بين عامي (1943 - 1955)، ورصد مراحل تطورها، وتحليلها في ظل الأحداث والتطورات التي مرت بها من جانب، والتطورات العالمية المتعلقة بالصراع الأميركي السوفيتي، من جانب ثان، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على جانب من التدخلات الأميركية في الشئون الداخلية لدول أميركا اللاتينية، دفاعًا عن مصالحها الاقتصادية. 
أثبتت عيسى في دراستها أن سياسة أميركا تجاه دول أميركا اللاتينية بشكل عام ظلت مبنية على أساس التدخل المباشر أو غير مباشر في شئون دول هذه القارة من أجل الهيمنة الأميركية على دولها والسيطرة عليها خاصة في النواحي الاقتصادية في المقام الأول، وقد اتخذت من "مبدأ مونرو" عام 1823، ذريعة لتدخلها وهيمنتها على القارة اللاتينية بشكل كبير، وظلت تتلاعب بهذا المبدأ؛ فتارة تستخدمه بأسلوب العصا الغليظة تجاه دول القارة اللاتينية، وتارة أخرى تستخدمه تحت شعار زائف فيما يعرف بسياسة حسن الجوار، ولكن الهدف الأساسي والواضح هو الحفاظ على المصالح الأميركية في القارة اللاتينية، واستغلال ما بها من ثروات ومواد خام.


وأكدت أن أميركا كانت ولا تزال تنظر إلى دول أميركا اللاتينية على أنها لقمة سائغة لها من البداية من أجل مصالحها الاقتصادية، فكانت تتصرف معها باعتبارها السيد صاحب الإقطاع، فإذا حاولت هذه الدول مناوأتها، كانت تقف لها بالمرصاد، ولم تجد سوى استخدام سياسة العصا الغليظة ضدها بحجة حفظ الأمن والنظام. وقد أدى استخدام أميركا لسياسة العصا الغليظة تجاه دول أميركا اللاتينية إلى استياء هذه الدول منها بشكل واضح، ونتيجة لذلك سارعت تلك الدول إلى الوقوف بجانب الأرجنتين التي ظلت تناوئ الولايات المتحدة الأميركية في سيطرتها وهيمنتها على دول القارة اللاتينية جمعاء، وعندئذ لجأت أميركا إلى تغيير سياستها إلى سياسة حسن الجوار التي دعا لها الرئيس "فرانكلين روزفلت" خلال عام 1933؛ حيث حاولت الولايات المتحدة الأميركية خلال تلك الفترة كسب ود الدول اللاتينية، وتجلى هذا في اعتراف واشنطن بسيادة بنما، فضلًا عن توقيعها اتفاقيات عدم التدخل مع عشرين دولة من دول أميركا اللاتينية.وأضافت عيسى أنه على الرغم من ذلك أيقنت الأرجنتين مراوغة أميركا لدول القارة جميعها؛ لذا تصدت الأرجنتين بكل ما أوتيت من قوة للولايات المتحدة الأميركية، بل وعارضتها في كثير من المؤتمرات الأميركية، لكن مع تولي الرئيس الأرجنتيني "أورتيز" الحكم عام 1938، بدأت العلاقات في تحسن بين أميركا والأرجنتين بعض الشيء، فقد كان "أورتيز" معجبًا بالرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت"، وخلال فترة رئاسته حرص على التخفيف من حدة العداء التقليدي من جانب الأرجنتين نحو توسع أميركا ونفوذها في نصف الكرة الأرضية الغربي، ونتيجة لذلك كانت الولايات المتحدة الأميركية "تدلل" الأرجنتين تحت إدارته، لكن لم يدم هذا طويلًا فسرعان ما مرض هذا الرئيس وصعد إلى السلطة الرئيس "كاستيلو"، الذي تبنى سياسة معارضة لنفوذ الولايات المتحدة الأميركية. اتضح هذا من خلال معارضة الأرجنتين برنامج الدفاع عن نصف الكرة الأرضية الغربي، الذي تبنته الولايات المتحدة الأميركية، وادعت أنها تعمل على أمن الدول الأميركية وسلامتها من ويلات الحرب العالمية الثانية، وبذلك ظلت الأرجنتين على معارضتها للسياسة الأميركية في حين خضعت باقي دول أميركا اللاتينية للسياسة الأميركية.


ولفتت إلى أن السياسة الأميركية قد نجحت بعض الشيء نتيجة لتبنيها سياسة حسن الجوار، فعندما تعرض ميناء "بيرل هاربر" إلى الهجوم الياباني، وأنهت الولايات المتحدة الأميركية حيادها، وأعلنت دخولها الحرب، اصطفت معظم دول أميركا اللاتينية، وأعلنوا الحرب باستثناء تشيلي والأرجنتين. ربما يرجع تعاون دول أميركا اللاتينية مع أميركا زمن الحرب العالمية الثانية إلى أن هذه الدول خشيت أن تنهار بانهيار الولايات المتحدة الأميركية وسقوطها، لذا حافظت على اتحادها ووحدتها معها، ومع ذلك ظلت دولتا الأرجنتين وتشيلي معارضتين من البداية لإعلان الحرب، ولم تعلن الأرجنتين الحرب إلا عندما كانت الحرب على وشك الانتهاء.


وتابعت عيسى أن أميركا بدأت حينذاك في انتهاج سياستها المتشددة تجاه الأرجنتين بحجة أنها تؤيد المحور وتحاكيه، كما مارست ضغطًا اقتصاديًا على الأرجنتين من أجل إضعافها وردها عن تلك المعارضة؛ حيث أعطت الأولوية لتلبية متطلبات المواد الاستراتيجية الناقصة لدول أميركا اللاتينية التي قطعت علاقاتها مع دول المحور فقط، وبالفعل عملت الولايات المتحدة الأميركية على إمداد البرازيل بالكثير من الأسلحة من أجل دب بذور الخلاف بين الدولتين الكبيرتين، بالإضافة إلى إيقاع الرئيس الأرجنتيني "كاستيلو" في فخ عدم استطاعته تلبية احتياجات الجيش وتسليحه بشكل كاف، مما مهد في الحقيقة للانقلاب عليه في 4 يونيو/حزيران 1943، من عناصر داخل الجيش نفسه. وبذلك يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية لم تتدخل بشكل مباشر في إحداث انقلاب على الرئيس الدستوري الدكتور "كاستيلو"، ولكنها أسهمت في قيام هذا الانقلاب بشكل غير مباشر، نتيجة لما مارسته من ضغوط سياسية واقتصادية على الأرجنتين، وبالفعل تمت الإطاحة بالدكتور "كاستيلو" في 4 يونيو/حزيران 1943، وقد أظهرت الحكومة الأميركية مدى سعادتها بهذا الانقلاب.


ورأت أن أميركا ابتهجت بهذا الانقلاب لأنه أطاح برئيس معارض لم يقبل الانصياع لما تمليه الولايات المتحدة الأميركية عليه من أوامر وقرارات؛ إلا إنه في الوقت نفسه نصح "أرامور" السفير الأمريكي في الأرجنتين حكومته بانتظار الوقت المناسب للاعتراف بالحكومة الجديدة، أو بعبارة أخرى التأني والتريث حتى تصبح النوايا الأرجنتينية أكثر وضوحًا، فيما يتعلق بالموالاة للحلفاء، وقطع العلاقات مع المحور، وإظهار الرغبة في الخضوع لرغبات الحكومة الأميركية. سارعت دول أميركا اللاتينية في تلك الأثناء الواحدة تلو الأخرى للاعتراف بالحكومة الأرجنتينية الجديدة بقيادة الرئيس "راميرز"، مما شكل ضغطًا على الولايات المتحدة الأميركية وأجبرها على الاعتراف هي الأخرى بتلك الحكومة، لكن مع مرور الوقت أعلن وزير الخارجية الأرجنتيني تمسك بلاده بسياسة الحياد التام والمطلق، كما أكد على صداقة الأرجنتين مع دول أميركا الجنوبية الأخرى، مدعيًا أن أساس السياسة الأرجنتينية يستند إلى ما يسمى بالوطنية الأميركية، ومن ثم قامت أميركا بتجميد الأصول البنكية الأرجنتينية عندها، على أمل أن تعدل الأرجنتين عن سياستها، لكن حدث عكس ذلك؛ حيث لجأت الأرجنتين إلى شراء الأسلحة من ألمانيا لتعويض الضغط الذي مارسته أميركا عليها. 


وشددت عيسى على أن الهدف الواضح والراسخ في السياسة الأميركية هو خدمة مصالحها الاقتصادية في المقام الأول، لذا كانت الولايات المتحدة الأميركية عندما تجد زعيمًا وطنيًا يعمل على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي لدولته، ويرفض أن يرضخ للإملاءات الأميركية أو يخون رسالتة الوطنية، ويعمل على تحقيق العديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل النهوض ببلده؛ تتحين الفرصة بل وتبذل قصارى جهدها بهدف الإطاحة به والقضاء على زعامته بشكل كامل، وهذا ما حدث مع الزعيم الأرجنتيني "بيرون".


وخلصت عيسى في دراستها إلى أن دول أميركا اللاتينية عندما تتحد ستصبح قوى ضاغطة على الولايات المتحدة الأميركية، وتستطيع تحقيق تكامل سياسي واقتصادي بعيدًا عن الهيمنة الأميركية، ومن ثم تحقيق نهضة اقتصادية كبيرة، لكن لتحقيق هذا لا بد من تكبد كثير من الصعاب والمشاق؛ لأن الإمبراطورية اليانكية توغلت بشباكها الاستعمارية داخل ثنايا القارة اللاتينية، ولن تتركها بسهولة نظرًا لمصالحها الاقتصادية داخلها، لذا كان على هذه الدول أن تتعامل بذكاء ككتلة واحدة تجاه أميركا.

 

25/06/2021

https://middle-east-online.com/

قراءة 572 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)