تداعيات الأزمات تعكس اتجاهات أمريكا اللاتينية السياسية

الجمعة, 01 تموز/يوليو 2016 10:45


جابريلا ميشيتي، أسيرة كرسي متحرك بعد حادث سيارة قبل عقدين من الزمن، لا تستسلم بسهولة لليأس. في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما انتقل نائب الرئيس الجديد أول مرة إلى مبنى مجلس الشيوخ من الحقبة الجميلة في بوينس آيريس، انفجرت بالبكاء.

تقول المرأة البالغة من العمر 51 عاما، "كل شيء كان في حالة فوضى. اكتشفت أنه لم تكن هناك أي مناقصات لعقود القطاع العام لأعوام. وغالبا لم تكن هناك أي سِجلات على الإطلاق. وبدأت بالبكاء. إضاعة أموال دافعي الضرائب كانت صارخة. خدمة الإنترنت التي نستخدمها الآن هي سبع مرات أرخص. مع التوفير، بإمكاننا إصلاح المبنى؛ كان قد أصبح باليا".
حكاية ميشيتي عن الرعب الخاص بشأن هدر الأموال العامة هي بمنزلة حكاية رمزية للمنطقة. فجأة، أصبح كثير من أمريكا اللاتينية تحت إدارة جديدة. على الرغم من مغازلة الولايات المتحدة وأوروبا للشعبوية، إلا أن هناك رومانسية حميمة على مستوى القارة مع القادة اليساريين الذين صعدوا إلى السلطة في العقد الأول من الألفية فتحت الطريق أمام "التعب من الشعبوية"، الغضب بشأن الفساد الذي ترعاه الدولة والانتقال إلى الوسط السياسي.

في الوقت نفسه، فإن التباطؤ الاقتصادي - من المتوقع أن يتقلّص الناتج من المنطقة للعام الثاني على التوالي للمرة الأولى منذ "العقد الضائع" في الثمانينيات - فرض العودة إلى التفكير التقليدي.

يقول كريس ساباتيني، أستاذ العلاقات الدولية المساعد في جامعة كولومبيا، "كثير من القادة الشعبويين الذين تم انتخابهم في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من الألفية... كانوا محظوظين بالوصول إلى السلطة في خضم طفرة السلع الأساسية العالمية التي دعمت مشاريعهم المبذرة وشعبيتهم. مع انهيار أسعار السلع الأساسية العالمية فإن هذه الحقبة تنتهي، وتأخذ معها كثيرا من هؤلاء القادة".

انتخبت الأرجنتين العام الماضي موريسيو ماكري، الوسطي، كرئيس، بعد 12 عاما من الحكم الشعبوي من قِبل كريستينا فيرنانديز وزوجها الراحل، نستور كيرشنر. ماكري جعل "الحكم" بمنزلة صيحة استنفار وأطلق برنامجا للإصلاح الاقتصادي.

في الوقت نفسه، عملية الإقالة المثيرة للجدل في البرازيل شهدت ديلما روسيف تستبدل بميشيل تامر في منصب رئيس الجمهورية، أثناء مواجهة المحاكمة. كما هي الحال في الأرجنتين. تامر يريد أن تكون صناعة سياسة اقتصادية معقولة هي السمة المميزة لحكومته، وقام بتعيينات من العيار الثقيل لوزارة المالية، والبنك المركزي، وشركة الطاقة التي تسيطر عليها الدولة بتروبراس وبنك التنمية الوطني BNDES.

على الرغم من أن تامر فقد ثلاثة وزراء لمصلحة مزاعم الفساد خلال سبعة أسابيع، إلا أن الرئيس المؤقت يقول إن البرازيل، التي تعاني أسوأ فترة ركود منذ قرن من الزمن، سيتم "إنقاذها" إذا كان إرث إدارته الوحيد هو أن تتمسك البلاد بفريق العمل الاقتصادي الخاص به.

يقول رئيس برازيلي في الصناعة عن إدارة تامر، "مجموعة فاسدة واحدة من السياسيين قد تكون حلت محل أخرى، لكن على الأقل هذه المجموعة تسعى في الطريق الصحيح".

وليس أن الناخبين يرفضون اليسار الشعبوي فحسب، بل إن سكان بيرو انتخبوا هذا الشهر بيدرو بابلو كوكزينسكي، مختص الاقتصاد، ليكون رئيسهم الجديد، بدلا من الشعبوية اليمينية كيكو بوجيموري، ابنة الرئيس السابق المخلوع والمسجون. ما يميز قارة مشهورة بالاستقطاب السياسي، أن كوكزينسكي فاز إلى حد كبير بفضل الدعم من اليسار في بيرو.

ما يضاعف الشعور بنهاية دورة أيديولوجية طويلة هو تقارب كوبا مع الولايات المتحدة بعد أكثر من نصف قرن من العداء المشترك، ومتابعة محادثات السلام بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية، أقدم تمرد حرب عصابات في نصف الكرة الأرضية، وهو ما انتهى بتوقيع اتفاقية السلام ووضع البندقية جانبا.

يقول ساباتيني، "رموز الحرب الباردة التقليدية الباقية تقترب من نهايتها".

«ضربة قاضية مفاجئة»

شعور التغيير الإقليمي عميق وسريع على حد سواء، حدث التحوّل خلال ستة أشهر فقط. هناك عاملان قاما بتسريعه.

أولا، هناك المثال الرهيب لفنزويلا الاشتراكية - المرآة التي تنظر إليها المنطقة وتشعر بالرعب من ما تراه. وسط تسارع التضخم وأعمال الشغب حول المواد الغذائية، بلغ سوء الإدارة أعلى درجة بحيث إن المفوضية المالية للجمعية الوطنية التي تسيطر عليها المعارضة تقدر أن 17 عاما من الشافيزية - الاسم الممنوح لسياسة الرئيس السابق هيوجو شافيز - شهدت سرقة أو هدر أكثر من 425 مليار دولار من الأموال العامة.

تقول السيدة ميشيتي، "هناك سبب واحد لفوزنا بالانتخابات [العام الماضي] هو أن كثيرين رأوا ما كان يحدث في فنزويلا وشعروا بالقلق أنه يمكن أن يحدث هنا". ديناميكية مماثلة حدثت في البرازيل، عندما طالب المحتجّون الذي يتظاهرون في الشوارع حكومة السيدة روسيف بـ "أرجنتين أكثر، وفنزويلا أقل".

العامل الثاني الذي يدفع التغيير الظاهر في أمريكا اللاتينية هو الغضب الشعبي بسبب المخالفات العامة - خاصة في ظل الحكومات اليسارية التي من المفترض أنها تدعم حقوق الفقراء.
تماما كما أدت الأزمة المالية لعام 2008 إلى تأجيج غضب الناخبين في الولايات المتحدة وأوروبا، كذلك الأوقات الاقتصادية العصيبة في أمريكا اللاتينية أثارت الغضب الشعبي بسبب الفساد الذي ترعاه الدولة الذي حدث في أعوام الازدهار.

تقول إليزا كاريو، العضو في ائتلاف ماكري الحاكم، "عدم التسامح بشأن الفساد لا يحدث إلا في حالات الضرورة الاقتصادية. مع ذلك، يتم الآن إجراء التحقيقات في الوقت الحقيقي. هذا تغيير ثقافي".

الأمثلة وفيرة، من فضائح الفساد التي أضرت بسمعة السياسيين في تشيلي، وجواتيمالا وبوليفيا؛ إلى مخطط الرشوة بقيمة 3 مليارات دولار في شركة بتروبراس الذي أدى إلى إلقاء القبض على كبار المشرّعين في جميع أنحاء الطيف السياسي في البرازيل؛ أو الحالة الغريبة لخوسيه لوبيز، الرئيس السابق للأعمال العامة في الأرجنتين، الذي تم اعتقاله الأسبوع الماضي بينما كان يحاول دفن 9 ملايين دولار تحت ستار الليل في أحد الأديرة.

يقول خواكين موراليس سولا، الكاتب الصحافي الأرجنتيني، عن الواقعة، "الهيمنة السياسية لـ [السيدة فيرنانديز وكيرشنر] انتهت.. مع ضربة قاضية مفاجئة. لا شيء في البلاد سيكون كما كان".

بحثا عن الرؤية

إن كان لا شيء سيكون كما كان، كيف سيكون مستقبل أمريكا اللاتينية مختلفا؟ إحدى الإجابات المتشائمة هي، ربما لن يكون مختلفا على الإطلاق. الشعبوية - إخبار الناخبين ما يريدون سماعه، حتى إذا كانت هذه الوعود، مثل تعهد دونالد ترامب للناخبين في الولايات المتحدة ببناء جدار على الحدود المكسيكية، غير واقعية - دائما ما يمكن أن تجد أرضا خصبة، خاصة في بلدان مع فجوة واسعة من عدم المساواة الاجتماعية.

ما يكون قد انتهى هو "الشعبوية الهائلة" في فنزويلا والأرجنتين في عهد السيدة فيرنانديز. بدلا من ذلك، يقول مويزس نعيم من مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي، إن القارة قد تعود ببساطة إلى "الشعبوية العادية" التي ميزت كثيرا من تاريخها.

كذلك ليس بالضرورة أن الأمريكيين اللاتينيين يبتعدون بشكل دائم عن اليسار الشعبوي الذي فقد مصداقيته. يضيف نعيم، "التصحيحات الاقتصادية الضرورية التي يجب أن تقوم بها الحكومات الجديدة لن تحظى بشعبية وستوجد الفرص لعودة اليسار".

ما يضيف إلى التعقيد هو الأمريكيون اللاتينيون البالغ عددهم 55 مليونا الذين صعدوا إلى الطبقة المتوسطة على مدى العقد الماضي، حيث لديهم توقعات عالية لاستمرار التقدم، وهو ما يظل يجعل الحكم أصعب. هل هناك طريقة لتحقيق هذه الأمور شبه المستحيلة؟
الجواب السهل هو الاستمرار بالإنفاق - كما يفعل ماكري في الأرجنتين. على الرغم من ارتفاع أسعار الكهرباء المدعومة بنسبة 400 في المائة في وقت سابق من هذا العام، وهي خطوة أثارت النقاد لانتقاد إدارته باعتبارها "ليبرالية جديدة وحشية"، إلا أن حكومته حافظت على البرامج الاجتماعية وخففت حملة التقشف السابقة. نتيجة لذلك، من المتوقع أن يصل العجز المالي إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.

يحذّر إجناسيو لاباكوي من الشركة الاستشارية للمخاطر، ميدلي جلوبال أدفايزرز، بأن "استراتيجية ماكري لا تخلو من المخاطر، لكن طالما أن السوق على استعداد لدعم ماكري من خلال تمويل الديون، [كما هي] الحال حتى الآن، فإن أرقام العجز تلك لا ينبغي أن تكون بمنزلة مشكلة".

ماكري هو في حالة خاصة نوعا ما. مثل حكومات تشيلي أو كولومبيا أو بيرو، تملك إدارته مصداقية كافية لجمع التمويل بشكل رخيص نسبيا.

على أن هذا ليس صحيحا بالنسبة لفنزويلا، التي تترنح على حافة العجز عن السداد. كما أنه ليس من الممكن حاليا في بلدان مثل البرازيل، التي أنفقت عائدات طفرة السلع الأساسية والآن تواجه ميزانيات متقلصة.

في مثل هذه الحالات، الطريقة الوحيدة لإخراج مقدار من الإنفاق من موارد الحكومة المالية الضئيلة هي من خلال إدارة أفضل وحوكمة عامة - ذلك الكأس بعيد المنال "يتعلّق قليلا بالأفراد وكثيرا بالمؤسسات"، بحسب تعبير موريسيو كارديناس، وزير المالية في كولومبيا.

الخدمات الاجتماعية هي مثال على ذلك. هذا صحيح بشكل خاص بالنسبة لتحسين التعليم العام الذي أمريكا اللاتينية بحاجة ماسة له لتطوير مهارات اقتصاد جديدة بعد أن انتهت طفرة السلع الأساسية الآن.

يقول ريكاردو بايس دي باروس، الذي ساعد في تصميم نظام الرعاية الاجتماعية المحمود للغاية في البرازيل، بولسافاميليا، ويتولى الآن منصب كبير مختصي الاقتصاد في معهد إيرتون سينا في ساو باولو، "المشكلة ليست في المال. فالإنفاق هو الهدف التعليمي الوحيد الذي تحققه البرازيل على الإطلاق. وإنما هي مشكلة في الحوكمة".

الضغط على المؤسسات

على الرغم من كل لباقتها الظاهرة، دعوة واسعة النطاق وغالبا غاضبة لتحسين الحكم تصف بشكل جيد المزاج السياسي في أمريكا اللاتينية. من الأرجنتين إلى المكسيك، تفسر شعبيتها من قِبل المواطنين الذين يشعرون بالقلق من استمرار تآكل الضوابط والتوازنات المؤسسية، والفساد الذي يلازمه.

وهذا يفسر شعبية حملة مكافحة الفساد في البرازيل، بقيادة سلطة قضائية مستقلة شهدت شخصيات لم يكن بالإمكان لمسها فيما مضى، مثل رجل الأعمال الملياردير مارسيلو أودبرشت، يرسل إلى السجن. كما تسلط الضوء على الضجة الأخيرة في كولومبيا، حيث مشروع قانون لمعاقبة الغياب في الكونجرس فشل بعد عدم مشاركة عدد كاف من السياسيين في التصويت.

الدعوات لتحسين الحوكمة شجعت التغيير السياسي في فنزويلا. في علامة أخرى على السياسة المتغيّرة في المنطقة، منظمة الدول الأمريكية تلتقي اليوم للبحث في فرض عقوبات على فنزويلا بسبب انتهاكات حقوق الإنسان. النقاش كان لا يمكن تصوره قبل عام.

إذا كان تحسين الحوكمة هو الطريقة للتقدم، فهذا يولد المشكلات الخاصة به. أحد الأسباب هو أن "العقلانية" و"المؤسساتية" ليستا شعارات تجعل النبض السياسي يتسارع. في تشيلي، فازت حكومة سبستيان بينييرا من يمين الوسط بالسلطة في عام 2010 بشعار "نحن مديرون جيدون"، وقضت أربعة أعوام مع شعبية بنسبة 30 في المائة على الرغم من الاقتصاد المزدهر ومعدل البطالة المنخفض.

يقول أندريه فيلاسكو، وزير المالية السابق في تشيلي، "الإدارة الجيدة ضرورية لكنها ليست شرطا كافيا. الناخبون اليوم ليسوا بحاجة إلى الشعور أن القادة يتدبرون أمرهم بشكل جيد فقط، بل أيضا بحاجة إلى الشعور أن قلبهم في المكان الصحيح، وأنهم يتصرفون من أجل الصالح العام".

هذا صحيح في أمريكا اللاتينية، مع تقاليدها الشعبوية، بقدر ما هو صحيح في أماكن أخرى - سواء كان ذلك في بريطانيا أو الولايات المتحدة، حيث الحملة لمغادرة الاتحاد الأوروبي وسباق ترامب السياسي غالبا ما يتم تفسيرها من قبل عواطف الناخبين، وليس المنطق.

تقول السيدة ميشيتي، "الشعبوية تولد تخديرا معينا. إنها مرض اجتماعي، حيث يفضل الناس العيش في واقع زائف. ذلك التخدير يرفع الأرجنتين، لكن ما زلنا بحاجة إلى رواية ملحمية... رؤية".

أحدث جيل من الزعماء في أمريكا اللاتينية لم يتمكن حتى الآن من العثور على هذه الرؤية.
المصدر
http://sudianews.com/out/608185/%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%94%D8%B2%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%B9%D9%83%D8%B3-%D8%A7%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%94%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9

قراءة 1005 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)