البرازيل: انطلاق بلا قدرة
لوهلة، شكل اكتشاف ترسبات (بري سال) النفطية داخل البحر في عام 2007 رمزا لنجاح شركة النفط الوطنية بتروبراس ومؤشرا على المستقبل المشرق الذي ينتظر البرازيل. لقد تم إطلاق إسم (بري سال) على هذه الترسبات البحرية لأنها توجد تحت مخروط متشكل من الملح الصلب مقابل ساحل ريو ديجانيرو. وكان التقدير أن حقول هذه الترسبات تحتوى على 50 مليون برميل من النفط. لقد بدا الاكتشاف مثيرا إلى حد دفع بالرئيس البرازيلي وقتها، إيناسيو لولا دي سيلفا، إلى زيارة آبار النفط هناك لاستقبال أول دفعة من النفط الخام المستخرج من هذه الاحتياطيات، واصفا إياها « بتذكرة اليانصيب الفائزة.»
لقد احتفظت شركة بيتروبراس، التي خُصخِصَت أثناء إدارة الرئيس السابق فيرناندو هينريككاردوسو، باحتكارها للقطاع النفطي في البرازيل. فهذه الشركة العملاقة مسؤولة عن إنتاج 90% من النفط المستخرج في البرازيل. وهي تسيطر على معظم نشاط توزيع الوقود بالتجزئة. كما تهيمن على كل شيء بين (بئر النفط ومضخة البنزين.) وعلى الرغم من أن بيتروبراس مُدرَجة في سوق الأسهم البرازيلية إلا أن الحكومة تحتفظ بغالبية أسهم الشركة. ويعين رئيس البرازيل رئيسها التنفيذي. لقد تعمقت هذه العلاقة الوثيقة مع ترتيب الحكومة البرازيلية لاستغلال حقول (بريسال). فقد منحت شركة بيتروبراس ملكية حصرية لنسبة 30% من النفط الموجود تحت المخروط الملحي. كما وضعت الحكومة أيضا قواعد تنص على استيفاء نسبة مرتفعة من المحتوى المحلي. فهي تستلزم أن تكون 85% من التقنية والمعدات المستخدمة لتطوير الحقول من إنتاج الشركات البرازيلية (تعتبر بيتروبراس والشركات التابعة لها أقوى المنافسين من بين هذه الشركات). ووقتها شعر بعض المراقبين بالقلق من الطبيعة التقييدية للإجراءات التنظيمية ومن توافر إمكانية الفساد في غياب المناقصات المفتوحة. وكانت هذه المخاوف مبررة إلى حد كبير. فقد كشفت تحقيقات تجريها للسلطات الفيدرالية أن بعض كبرى شركات البناء في البرازيل ربما تكون قد دفعت رشاوى إلى بيتروبراس للحصول على عقود بقيمة 23 بليون دولار، ذهب بعضها إلى حزب العمال الحاكم. إلى ذلك ومع هبوط أسعار النفط، فقد تم الآن تجميد تنفيذ العديد من هذه العقودات مما جعل كبرى الشركات البرازيلية (مثل شركة أو أيه إس للبناء وشركة سيتس براسيل للحفريات) تصارع لسداد ديونها. وأقرت بيتروبراس مؤخرا بأنها بالغت في تقدير قيمة أصولها بأكثر من 30 بليون دولارمن قيمتها الحقيقية. وخفضت شركات تصنيف الائتمان (موديز وستاندارد آند بورز وفيتش) سندات شركة بيتروبراس إلى أدنى درجة استثمارية. وكنتيجة لذلك هبط سعر سهم الشركة بنسبة 55% منذ سبتمبر مما قلل من قيمتها بما يقرب من 50 بليون دولار. ولو أن بيتروبراس والجهات المتعاقدة معها كانت قد تمكنت من استغلال احتياطيات حقل بري سال والاستفادة من عائداته لتسديد ديونها وغراماتها لكان مآلها غير هذا المآل. ولكن لكي تكون أعمال التنقيب في حقل (بري سال) مربحة، يجب أن يكون سعر النفط قريبا من 100 دولار للبرميل. والسعر الحالي أبعد ما يكون عن هذا الرقم. كما أن مسألة عمولات الفساد تبعد المستثمرين المحتملين. ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد (الناتج المحلي الإجمالي) البرازيلي بنسبة 0.1% هذا العام. كما أن حالة الفوران السياسي المحتدم أصابت برشاشها الحزب الحاكم وقلصت من شعبية الرئيسة البرازيلية ديلما روزيف إلى أقل من 20%. وتتحول باطراد الصناعة النفطية التي كانت واعدة يوما ما إلى رمز للفساد المقيم في البرازيل وتذكارا بالأشياء التي ما كان ينبغي لها أن تكون.
المكسيك: اضطرابات نفطية
وبالنسبة للمكسيك فإن الهبوط الذي شهدته أسعار النفط يأتي في أعقاب إصلاح دستوري وتنظيمي مؤلم سياسيا بقصد فتح صناعة موارد الطاقة الوطنية التي طال إغلاقها أمام الاستثمار والإنتاج الأجنبي. لقد صارت المكسيك ثالث أكبر منتج للنفط في المنطقة منذ اكتشاف احتياطيات نفطية كبيرة في أعوام السبعينات. ولكن الحكومة سعت إلى تجنب التحول إلى دولة بترولية. وإحدى الخطوات التي اتخذتها في هذا الجانب كانت تنويع الصادرات. واليوم فإن النفط يمثل أقل من 15% من صادرات البلد على الرغم من أنه يساهم بـ 30% من الإيرادات العامة. وكنتيجة لذلك كانت المكسيك في موضع أفضل من البرازيل في احتمال الوطأة الاقتصادية لتدني الأسعار. ورغما عن ذلك فقد جاءت الأزمة في توقيت سيئ. لقد ظل النفط محميا بموجب دستور المكسيك منذ أوائل القرن العشرين. وفي عام 1938، قام رئيس الجمهورية وقتها لازار وكارديناس بتأميم الصناعة النفطية. وتحتكر شركة النفط المملوكة للدولة (بيميكس) كل جوانب صناعة النفط والغاز في المكسيك، بدءا بالتنقيب وحتى الإنتاج ومبيعات التجزئة. وبعد انتخابه بوقت وجيز في عام 2012، شرع الرئيس إنريكو بينا نييتو(وهو زعيم جاء من نفس الحزب الذي كان ينتمي له كارديناس) في فتح قطاع النفط للاستثمار الأجنبي. لقد كان هذا الاصلاح متوقعا منذ فترة طويلة. فحقل (كانتريل) الكبير في المكسيك كان على وشك النضوب وكانت شركة بيميكس بحاجة إلى كل من الخبرة الفنية والتمويل الجديد لاستكشاف الآبار النفطية في المياه العميقة لخليج المكسيك والتي تشكل تحديا وأيضا إمكانية لإنتاج الغاز الصخري. وأتاحت آخر حزمة من الإصلاحات وضعت عام 2013 للمستثمرين الأجانب مجالا أكبر في التنقيب والحفر والإنتاج. ودفعت حالةُ الإبتهاج التي أعقبت الإصلاحات ببعضَ الاقتصاديين إلى التنبؤ بأن التغييرات (التي حدثت) ستعزز الناتج المحلي الإجمالي للمكسيك بما يزيد عن 1%. ولكن هذه التوقعات لم تضع تقلبات الأسعار في حسابها. فالهبوط الذي حدث مؤخرا في سعر النفط سيخفض من الإيرادات العامة في المكسيك ويُعَرِّض شركة بيميكس إلى ضغط مالي متزايد. هذا إذا لم نذكر الفشل في تحقيق التعزيز المتوقع للناتج المحلي الإجمالي. وتوقعت دراسة صدرت مؤخرا عن مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة أن تتعرض الحكومة المكسيكية إلى ضغط شديد في حال هبط النفط إلى أقل من 70 دولارا للبرميل واستمرالسعر عند هذا المستوى لفترة عام أو أكثر. وفي الشهر الماضي خفض البنك المركزي المكسيكي توقعاته حول النمو في عام 2015 إلى ما بين 3.5% و2,5% من توقعات سابقة تراوحت بين 3% إلى 4%. لقد تزامنت هذه الضربات مع بدء الاقتصاد المكسيكي في استجماع قواه بعد أن أنهكه انكماش عام 2008 الذي أصاب الولايات المتحدة، وهي أكبر أسواقه. ولحسن الحظ فإن الإدارة القوية لمالية الدولة والاقتصاد الكلي التي شهدتها المكسيك على مدى عدة أعوام وضعت الحكومة في موقف مريح فيما يتعلق بقدرتها على الاقتراض. لقد أبطأ الهبوط الذي شهدته أسعار النفط من فتح حقول النفط في العديد من البلدان للاستكشاف. ومؤخرا كانت المكسيك قد دعت الشركات الأجنبية إلى تقديم عطاءين منفصلين لأعمال التنقيب في حقول المياه الضحلة بحوض (شوريستي) في خليج المكسيك. وكانت الاستجابة لتلك الدعوة قوية. ولكنها كانت كذلك في الأساس لأن وجود النفط في تلك الحقول مضمون سلفا واستخراجه سهل. ولكن انخفاض أسعار النفط أجبر الحكومة الآن على عدم المضي قدما في تنفيذ خطط التنقيب عن احتياطيات النفط في المياه العميقة. كما من المرجح أن يؤدي هذا الانخفاض إلى تأجيل أية جهود لاستكشاف الغاز الصخري. ولكن الأثر السلبي الأكبر قد يكون سياسيا. فالرئيس المكسيكي، بجانب تنفيذه إصلاحات القطاع النفطي، قام أيضا بترميم النظامين الضرائبي والتعليمي في بلده بعد فترة قصيرة من توليه الرئاسة. وهناك معارضون كبار لكل من هذه الخطوات التي اتخذها. فإصلاحاته لقطاع الطاقة أغضبت اتحاد عمال النفط القوي. أما إصلاحاته الضرائبية فقد أثارت سخط مجتمع الأعمال. كما أصابت الإجراءات الإصلاحية الأبقار المقدسة (فالسيادة المكسيكية على نفطها ظلت تشكل محكا للمشاعر الوطنية منذ عهد الثورة) واستثارت احتجاجات سياسية صاخبة. وكان الرهان الضمني هو أن الإصلاحات ستطلق نموا اقتصاديا يكفي لإخراس أصوات النقد. ولكن لم يقتصر الأمر فقط على تباين تطورات سوق النفط العالمي مع تلك الخطة بل كذلك عانت حكومة الرئيس بينا نييتو من سلسلة من الأزمات السياسية بما في ذلك عدة إتهامات بالفساد واحتجاجات حول استجابة الحكومة البطيئة لاختفاء 43 طالب تربية في سبتمبر. وكنتيجة لذلك هبطت شعبيته إلى أدنى مستوى لرئيس دولة مكسيكي خلال ما يزيد عن عشرين عاما.
فنزويلا – فوضى نفطية
ثم هنالك الحالة السياسية والاقتصادية العصيبة التي تمثلها فنزويلا. فمنذ عام 1999 حين جاء الرئيس السابق هوجو شافيز إلى السلطة ارتفع نصيب النفط من صادرات فنزويلا إلى 95%. وفي أثناء نفس الفترة خفَّض انعدامُ الاستثمار في عمليات التنقيب والتقنيات الجديدة معدلَ الإنتاج الفنزويلي من 3 ملايين برميل في اليوم عام 2000 إلى 2.4 مليون برميل فقط في الوقت الحاضر. والآن ومع وجود سعر صرف للعملة الوطنية أعلى بكثير من قيمتها الحقيقية وهبوط أسعار النفط فإن الرئيس نيكولاس مادورو الذي أعقب شافيز على سدة الحكم يترنح عند حافة الإفلاس. لقد حاولت حكومته الحفاظ على نظام صرف معقد ينطوي على ثلاثة أسعار للعملة الوطنية أعلاها يساوي عنده الدولار 6.3 بوليفار وعند أدناها 170 بوليفار. ولكن حتى هذا السعر الأدنى لا يعكس سعر السوق السوداء السائد الذي يتراوح عند 190 بوليفار للدولار. وإذا لم يكن تضخم سعر الصرف كافيا لإيذاء البنك المركزي الفنزويلي الذي يواجه انخفاضا في الدخل من الصادرات، فقد ظلت الحكومة ولأمد مديد (تغرف) من احتياطياته النقدية لتمويل برامجها الاجتماعية السخية. وكنتيجة لذلك، انخفضت قيمة الاحتياطيات الفيدرالية من الذهب والعملات الصعبة إلى مبلغ زهيد لا يتعدى 21 بليون دولار، بحسب بعض التقديرات مع مدفوعات بقيمة 11 بليون دولار تتعلق بديون مستحقة السداد في عام 2015 لوحده.
لقد دفعت المتاعب الاقتصادية لفنزويلا بالحظوظ السياسية للرئيس مادورو الذي يفتقر للكاريزما إلى أسفل سافلين. فشعبيته الآن تتراوح عند 22%. وردا على ذلك لجأ مادورو إلى إتباع إستراتيجيته المفضلة وهي قمع المعارضة وتوجيه اللوم للولايات المتحدة. وآخر مثال لذلك اعتقاله لعمدة كاراكاس أنطونيو ليديزما والذي اتهمه بالمشاركة في مؤامرة انقلابية دبرتها واشنطن. وفي نظر العديدين أن مثل هذه الإدعاءات المتمحلة تفضح قلة الحيلة وتشير إلى أن أيام مادورو في الحكم صارت معدودة. ومهما كانت نتيجة الوضع الاقتصادي والسياسي الكئيب لفنزويلا فإن انهيار اقتصادها سيطلق تداعيات حول المنطقة. لقد ظلت فنزويلا ولما يزيد عن عقد من الزمان تقدم نفطا رخيصا (شحنات مدعومة بقروض منخفضة الفائدة) إلى 16 بلدا في حوض الكاريبي. وكانت كوبا أكبر المستفيدين حيث كانت تحصل على مايقرب من 100 ألف برميل في اليوم كجزء من إجمالي العون الاقتصادي الفنزويلي والذي ربما كان يساوي حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي لكوبا. ولكن بلدان أخرى بدءا بجمهورية الدومينيكان وحتى هايتي صارت أيضا تعتمد على سخاء فنزويلا. صحيح بإمكان العديد من هذه البلدان الاستفادة من انخفاض أسعار النفط فيما يخص فاتورة وارداتها من موارد الطاقة إذا إنهار اقتصاد فنزويلا بتمامه، آخذا معه فضلها وإحسانها. ولكن ستشكل خسارة سهولة الحصول على النفط تحديا للعديد من قادة المنطقة، المنتخبين منهم أو غير المنتخبين.
رهانات رخيصة
إن البلدان الثلاثة (البرازيل والمكسيك وفنزويلا) تجسد خطر ارتهان الاستقرار السياسي والاقتصادي للأسعار المرتفعة لسلعة النفط. وتظهر متاعبها الأخيرة مدى خطورة هذه الاستراتيجية. وإذا استمر تدني الأسعار فإن حكومات هذه البلدان الثلاثة وبلدان أخرى في المنطقة سيلزمها ان تواجه قيودا اقتصادية قاسية فيما هي تحاول التصدي لتحديات اقتصادية متنوعة بما في ذلك مطالب (شعبية) بالمحاسبة والمزيد من المساواة في المنافع الاقتصادية وحقوق الإنسان. ويمكن أن تكون النتائج محبطة في أحسن الأحوال ومقوضة للاستقرار في أسوأها. لقد كان المراقبون الذين استغرقوا في الاحتفاء بالنمو الاقتصادي القوي الذي شهدته المنطقة يعلنون، قبل أعوام قليلة فقط، عن حلول عهد جديد لأمريكا اللاتينية. والشيء الذي نسيه هؤلاء أن الأسعار المرتفعة للسلع في السنوات الأولى من العشرية الأولى لهذا القرن كان لها نصيب وافر في إحراز ذلك التقدم الذي تحقق في القارة. إن ثمن ذلك التفاؤل المبكر سيشعر به الآن الجميع. وبالنسبة لبعض الحكومات ومواطنيها فإن ألعاب اليانصيب التي ترتكز على الموارد ستبدو (إذا استرجعنا ما حدث) مجرد خديعة.
كريستوفر ساباتيني –
ترجمة قاسم مكي/ مجلة فورين أفيرز –
http://omandaily.om/?p=217391