تمضي الصين بخطوات إستراتيجية واسعة في أمريكا اللاتينية، تبني موانئ وسككَ حديدٍ وطرقَ شحنٍ تربط المنطقة بفلكها الاقتصادي والسياسي.
ومن مركز المياه العميقة الجديد في بيرو إلى مشروعات استخراج الليثيوم في بوليفيا، تُحوّل بكين بنيتها التحتية إلى أداة نفوذ إستراتيجية، بينما تكافح واشنطن لمواءمة رأس المال مع أهدافها الجيوسياسية، وفق موقع "Latin American Post".
البوابة الصينية في المحيط الهادئ
في أواخر 2024، زار الرئيس الصيني شي جين بينغ بيرو لتدشين المرحلة الأولى من بويرتو شانكاي، استثمار صيني أولي قدره 1.3 مليار دولار.
صُمم الميناء، الذي يشيد على الساحل البيروفي للمحيط الهادئ، لاستقبال السفن العملاقة، وتسريع تصدير المعادن والمنتجات الزراعية مباشرة إلى الصين؛ ما يقلص أوقات العبور ويعزز سيطرة بكين على سلاسل التوريد.
ويشير محللو البنتاغون إلى أن تشانكاي أكثر من مجرد منصة تجارية؛ فالقدرة نفسها التي تدعم التصدير يمكن استخدامها لأغراض عسكرية في أوقات الأزمات.
أما بالنسبة لبكين، فكان الحدث رمزًا إستراتيجيًّا وسياسيًّا في آن واحد، يعكس توجه الصين المتزايد إلى ما كانت واشنطن تعتبره مجال نفوذ أمريكي تقليدي.
تشانكاي ليست استثناءً، بل جزء من نمط متواصل منذ عقدين، حيث مولت الصين الطرق والسكك الحديد وشبكات الكهرباء، فيما انشغلت الولايات المتحدة بمكافحة الإرهاب والتحولات الديمقراطية.
وبحلول عام 2025، انضمت كولومبيا إلى مبادرة الحزام والطريق، مع تعزيز ما يقرب من ثلثي أمريكا الجنوبية لعلاقاتها المالية والسياسية مع بكين؛ ما يوسع نطاق النفوذ الصيني على الرسوم والجداول الزمنية والشروط الاقتصادية.
الموانئ، والسكك الحديد، والليثيوم
لا يقتصر التوسع الصيني على الموانئ فحسب، بل يمتد نحو الداخل، مستهدفًا العمود الفقري المعدني لأمريكا الجنوبية.
وتعهدت الشركات الصينية بمليار دولار في سالار دي أويوني البوليفية، لإنتاج 35 ألف طن متري من الليثيوم سنويًّا، معدن أساسي للسيارات الكهربائية.. وبربط هذا الإنتاج بشبكة شانكاي وخطوط الشحن الصينية، يصبح الليثيوم جزءًا من سلسلة توريد متكاملة تمتد من جبال الأنديز إلى البطاريات في شنغهاي.
كما يخطط مشروع سكة حديد عابرة للقارات لربط شانكاي بالبرازيل عبر بوليفيا؛ ما يسمح بنقل الخام والحبوب مباشرة إلى الموانئ، متجاوزًا كيب هورن وقناة بنما، خفضًا للتكاليف وتعزيزًا للسيطرة الصينية على الموارد.
وبالفعل، تربط خدمة WSA5 بين شنغهاي وتشينغداو وموانئ الأنديز مباشرة، متوقعة خفض تكاليف الشحن بنسبة 20%.
الصبر والتكامل
لم تمر كل المشاريع بسلاسة؛ ففي بنما، أطلقت دعاوى قضائية بشأن دور الصين في الموانئ القريبة من القناة، مذكّرة بأن السياسات المحلية والمعارك القانونية لا تزال مؤثرة.
إلا أن بكين تظهر صبرًا إستراتيجيًا: إذا تعثرت نقطة، تُسرّع وتيرة الاستثمار في مواقع أخرى؛ والنتيجة تراكمية: شبكة من الأصول والبنى التحتية تحول نصف الكرة الأرضية إلى معايير صينية.
ويشير محللو "ذا ناشيونال إنترست" إلى أن النفوذ الصيني لا يُقاس بالخطابات، بل بالشيكات والاستثمارات والالتزامات المالية المباشرة، التي تربط الحكومات والشركات بمواعيد ومشاريع بكين، خطوة بخطوة.
التحدي الأمريكي
تواجه واشنطن اليوم معضلة: كيفية مواجهة النفوذ الصيني دون التوقف عن لعب دور إستراتيجي في المنطقة؛ وأداة واشنطن الأساسية هي مؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC)، المنشأة بموجب قانون BUILD لعام 2018.
لكن في الواقع، تشبه محفظة DFC وكأنها وكالة تنمية تقليدية أكثر منها ممولًا إستراتيجيًّا قادرًا على المنافسة. فهي محدودة في التعامل مع الدول متوسطة الدخل، مثل: كولومبيا وبيرو وتشيلي والبرازيل، بينما الصين تعمل دون أي قيود مماثلة ضمن مبادرة الحزام والطريق.
لتحويل مؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC) إلى منافس فعلي، يقترح المحللون تعزيز تركيزها على الأولويات الأمنية في نصف الكرة الغربي، مع توسيع ميزانيتها وزيادة مرونتها، بما في ذلك قبول القروض عالية المخاطر، وتقديم ضمانات التأمين ضد المخاطر السياسية، ودعم اتحادات الشركات الأمريكية القادرة على تنفيذ المشاريع بسرعة وكفاءة.
بهذه الطريقة، يمكن للمؤسسة أن تتحول إلى بنك متجدد يدوّر أرباحه في مشاريع جديدة، ويوفر بدائل موثوقة وشفافة، موازنًا النفوذ الصيني.
السباق نحو الشركاء اللاتينيين
ستختار حكومات أمريكا اللاتينية شركاءها النهائيين بناءً على التكلفة، والسرعة، والموثوقية؛ وحاليًّا، الصين تقدم عقودًا جاهزة وسفنًا في طريقها؛ ما يجعل مشروع
شانكاي "فوزًا حاسمًا"، وفق مسؤول أمريكي، لكنه يحمل أيضًا تحذيرًا: الوقت يمر بسرعة، والنفوذ الصيني يتنامى.
وإذا أرادت واشنطن الحفاظ على دورها في ربط نصف الكرة الأرضية، فعليها التحرك بالتمويل على الأرض مباشرة، رصيفًا تلو الآخر، وسكة حديد تلو الأخرى، وقرضًا تلو الآخر، بدلًا من الاكتفاء بالخطابات الإستراتيجية.
18/09/2025
https://www.eremnews.com/news/world/rzyw83