يشهد الاقتصاد الأرجنتيني واحدة من أكثر مراحله اضطراباً في تاريخه الحديث، في ظل عوامل داخلية وخارجية ضاغطة تجعل البلاد على صفيح ساخن مالياً ونقدياً. فقد تحولت الأرجنتين من نموذج للثراء في وقت سابق إلى رمز للتقلبات والأزمات التي تهدد استقرارها الاقتصادي والاجتماعي.
تتسارع التطورات السياسية والمالية في ظل محاولات حثيثة من القيادة الحالية لطمأنة الأسواق وإقناع المستثمرين بجدوى الإصلاحات المطروحة. غير أن التحديات المتراكمة عبر عقود من سوء الإدارة والسياسات المتناقضة تضع البلاد أمام معادلة صعبة بين الحاجة إلى الاستقرار وبين ضغوط الواقع الاقتصادي القاسي.
في السياق، يشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إلى أن الأرجنتين كانت من أغنى دول العالم. أما اليوم، فهي تُعتبر مثالاً يُحتذى به للاقتصاد المُعرّض للأزمات، والذي تخلف عن سداد ديونه السيادية الدولية تسع مرات. ويُظهر عرض الدعم المالي الأميركي مدى تدهوره.
كان من المفترض أن يؤدي انتخاب خافيير مايلي في عام 2023 - وهو الذي يصف نفسه بأنه رأسمالي فوضوي والذي استخدم منشارا كهربائيا خلال حملته الرئاسية ليرمز إلى حربه على الهدر - إلى طي صفحة هذا السرد.
- في خضمّ حالة الذعر، أنفق البنك المركزي الأرجنتيني أكثر من مليار دولار من احتياطياته الأجنبية للدفاع عن البيزو الأسبوع الماضي.
- وهذا الأسبوع، صرّح وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت بأنّ الولايات المتحدة ستبذل "كل ما يلزم" لمساعدة الأرجنتين، بما في ذلك خطوط المبادلة والشراء المباشر لديون الأرجنتين الدولارية.
- من المفترض أن يُوفر هذا الدعم بعض الراحة المؤقتة لعمليات البيع. لكنه لا يُعالج جوهر مشكلة مايلي: التوتر الكامن بين استراتيجيته القائمة على استخدام البيزو القوي والتقشف المالي لكبح التضخم، مع السعي في الوقت نفسه إلى توسيع الاقتصاد وتحسين الميزانية الخارجية للبلاد.
- لدى الأرجنتين ديون مقومة بالدولار واليورو بقيمة 95 مليار دولار، مقابل احتياطيات صافية تبلغ حوالي 6 مليارات دولار، وفقًا لبنك باركليز.
- يتعين عليها سداد ديون بقيمة 44 مليار دولار حتى نهاية ولاية مايلي في عام 2027.
- ولا يستطيع مايلي تحمل تكلفة استخدام احتياطيات النقد الأجنبي الشحيحة لدعم البيزو.
أزمة معقدة
يقول خبير العلاقات الدولية المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية، والباحث في القانون العام، حمدي أعمر حداد، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
- الأرجنتين تعيش واحدة من أعقد الأزمات الاقتصادية في تاريخها الحديث، حيث تواجه معدلات تضخم قياسية، وانكماشاً في النمو، وعجزاً مزمنًا في الميزانية، إلى جانب ارتفاع الدين العام وضعف الاحتياطيات من النقد الأجنبي.
- هذه الوضعية خلقت حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي انعكست على شرعية النظام الحاكم وقدرة الرئيس خافيير مايلي على تنفيذ برنامجه الإصلاحي.
- الدعم الأميركي برز كعامل مساعد عبر خطوط تمويل وائتمان وإشارات قوية للأسواق، غير أن التساؤل المركزي يبقى: هل يكفي هذا الدعم وحده لإنقاذ الاقتصاد الأرجنتيني؟
- بحسب حداد الإجابة هي "لا"؛ فهذا الدعم يُمثل عاملاً مهماً لكنه غير كافٍ لوحده، بل يحتاج إلى استكماله بإصلاحات هيكلية وسياسات داخلية شجاعة.
دعم مؤقت
ويصف تقرير لبلومبيرغ خطط الولايات المتحدة لتمديد خط مبادلة بقيمة 20 مليار دولار للأرجنتين واستعدادها لشراء السندات الأجنبية للبلاد، بأنها "توفر الدعم المالي الذي يحتاجه الرئيس خافيير ميلي بشدة بينما يحاول استعادة ثقة المستثمرين ووقف انخفاض البيزو" .وقال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت في منشور على منصة X صباح الأربعاء، والذي أثار ارتفاعاً قصيراً في قيمة الأصول الأرجنتينية، إن شروط الصفقة لا تزال قيد التفاوض . وأوضح بيسنت في مقابلة مع قناة فوكس نيوز أن التمويل كان يهدف إلى مساعدة مايلي قبل انتخابات التجديد النصفي الحاسمة الشهر المقبل، ودعم حليف أيديولوجي في منطقة لا يحظى فيها الرئيس دونالد ترامب إلا بتأييد محدود في السلطة.وقال بيسنت، في إشارة إلى الزعيم الأرجنتيني: "لا أعتقد بأن السوق قد فقدت ثقتها به. أعتقد بأن السوق تنظر إلى الماضي وتتأمل عقودًا - حوالي قرن - من سوء الإدارة الأرجنتينية المريع".ويضيف التقرير:
- واجه مايلي، المُصلح المُؤيد للسوق الحرة، ضغوطًا مالية مُتزايدة خلال الأسبوعين ونصف الأسبوع منذ أن خسر حزبه انتخاباتٍ إقليميةً مهمةً بأغلبيةٍ ساحقة، وهي نذير شؤمٍ قبل شهرٍ واحدٍ فقط من انتخابات الكونغرس.
- دفعت هذه الهزيمة المستثمرين إلى سحب أموالهم من البلاد، خشية أن يفقد مايلي الدعم الذي يحتاجه لمواصلة أجندته الإصلاحية المُشجعة للأعمال، وكبح جماح التضخم، واستقرار العملة التي عصفت بها الأزمات مرارًا وتكرارًا في العقود الأخيرة.
الدعم الأميركي لا يكفي
بدوره، يشير أستاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أن:
- الدعم الأميركي وحده لا يكفي لإنقاذ اقتصاد الأرجنتين.. هذا الدعم، سواء جاء عبر مساعدات مالية مباشرة، أو تسهيلات ائتمانية، أو استثمارات خاصة أميركية، أو حتى دعم دبلوماسي عبر مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، قد يوفّر زخماً مؤقتاً، لكنه لا يعالج جذور الأزمات البنيوية التي تعانيها البلاد.
- الأرجنتين تواجه مشكلات متراكمة منذ عقود (..) وبالتالي فإن أي دعم خارجي سينهار إذا لم يكن مصحوباً بخريطة إصلاحية واقعية تحظى بقبول سياسي واجتماعي.
تحديات هيكلية
يقول أستاذ العلاقات الدولية والباحث المتخصص في شؤون أميركا اللاتينية، الدكتور محمد عطيف، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الاقتصاد الأرجنتيني يواجه تحديات هيكلية عميقة منذ تولي الرئيس خافيير مايلي السلطة قبل نهاية 2023، منبهاً إلى أن سياسة "العلاج بالصدمة" ساعدت في خفض التضخم الشهري لكنها لم تمنع بقاء التضخم عند مستويات سنوية مرتفعة.ويرى أن الولايات المتحدة وحدها لا تستطيع حل الأزمة، لافتًا إلى أن المخاطر الكبرى تكمن في تآكل احتياطيات النقد الأجنبي، وهو ما يجعل تدخل صندوق النقد الدولي عبر برنامج إنقاذ جديد ضرورياً رغم شروطه الصارمة.ويضيف أن:
- إصلاحات مايلي لم تحقق بعد نمواً مستداماً، ما يتطلب دعماً داخلياً وتشريعياً أوسع، مع تفادي خيار "الدولرة الكاملة" الذي قد يضعف السيادة النقدية.
- الدعم الأميركي يمثل دفعة قصيرة المدى فقط، لكنه غير كافٍ لإنقاذ البرنامج الاقتصادي.
- النجاح الحقيقي يتطلب مقاربة شاملة تقوم على تنسيق دولي وإصلاحات داخلية عميقة مع الحفاظ على استقلال القرار الاقتصادي، خصوصًا في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد مع الصين في أميركا اللاتينية.